فصل: ذكر ولاية الفتكين دمشق وما كان منه إلى أن مات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر ولاية الفتكين دمشق وما كان منه إلى أن مات

قد ذكرنا ما كان من انهزام الفتكين التركي مولى معز الدولة بن بويه من مولاه بختيار بن معز الدولة ومن عضد الدولة في فتنة الأتراك بالعراق فلما انهزم منهم سار في طائفة صالحة من الجند الترك فوصل إلى حمص فنزل بالقرب منها فقصده ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان أمير دمشق للمعز لدين الله ليأخذه فلم يتمكن من أخذه فعاد عنه وسار الفتكين إلى دمشق فنزل بظاهرها‏.‏

وكان أميرها حينئذ ريان الخادم للمعز وكان الأحداث قد غلبوا عليها وليس للأعيان معهم حكم ولا للسلطنة عليهم طاعة فلما نزل خرج أشرافها شيوخها إليه وأظهروا له السرور بقدومه وسألوه أن يقيم عندهم ويملك بلدهم ويزيل عنهم سمة المصريين فإنهم يكرهونها بمخالفة الاعتقاد ولظلم عمالهم ويكف عنهم شر الأحداث‏.‏

فأجابهم إلى ذلك واستحلفهم على الطاعة والمساعدة وحلف لهم على الحماية وكف الأذى عنهم منه ومن غيره ودخل البلد وأخرج عنه ريان الخادم وقطع خطبة المعز وخطب للطائع لله في شعبان وقمع أهل العيث والفساد وهابه الناس كافة وأصلح كثيرًا من أمورهم‏.‏

فكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به فقصدهم وأوقع بهم وقتل كثيرًا منهم وأبان عن شجاعة وقوة نفس وحسن تدبير فأذعنوا له وأقطع البلاد وكثر جمعه وتوفرت أمواله وثبت قدمه‏.‏

وكاتب المعز بمصر يداريه ويظهر له الانقياد فشكره وطلب منه أن يحضر عنده ليخلع عليه ويعيده واليًا من جانبه فلم يثق به وامتنع من المسير فتجهز المعز وجمع العساكر لقصده فمرض ومات على ما نذكره سنة خمس وستين وثلاثمائة وولي بعده ابنه العزيز بالله فأمن الفتكين بموته جهة مصر فقصد بلاد العزيز التي بساحل الشام فعمد إلى صيدا فحصرها وبها ابن الشيخ ومعه رؤوس المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي فقاتلهم وكانوا في كثرة فطمعوا فيه وخرجوا إليه فاستجرهم حتى أبعدوا ثم عاد عليهم فقتل منهم نحو أربعة آلاف قتيل‏.‏

وطمع في أخذ عكا فتوجه إليها وقصد طبرية ففعل فيها من القتل والنهب مثل صيدا وعاد إلى دمشق‏.‏

فلما سمع العزيز بذلك استشار وزيره يعقوب بن كلس فيما يفعل فأشار بإرسال جوهر في العساكر إلى الشام فجهزه وسيره‏.‏

فلما سمع الفتكين بمسيره جمع أهل دمشق وقال‏:‏ قد علمتم أنني ما وليت أمركم إلا عن رضىً منكم وطلب من كبيركم وصغيركم لي وإنما كنت مجتازًا وقد أظلكم هذا الأمر وأنا سائر عنكم لئلا ينالكم أذىً بسببي‏.‏

فقالوا‏:‏ لا نمكنك من فراقنا ونحن نبذل الأنفس والأموال في هواك وننصرك ونقو معك فاستحلفهم على ذلك فحلفوا له فأقام عندهم‏.‏

فوصل جوهر إلى البلد في ذي القعدة من سنة خمس وستين وثلاثمائة فحصره فرأى من قتال الفتكين ومن معه ما استعظمه ودامت الحرب شهرين قتل فيها عدد كثير من الطائفتين‏.‏

فلما رأى أهل دمشق طول مقام المغاربة عليهم أشاروا على الفتكين بمكاتبة الحسن بن أحمد القرمطي واستنجاده ففعل ذلك فسار القرمطي إليه من الأحساء فلما قرب منه رحل جوهر عن دمشق خوفًا أن يبقى بين عدوين وكان مقامه عليها سبعة أشهر ووصل القرمطي واجتمع هو والفتكين وسارا في أثر جوهر فأدركاه وقد نزل بظاهر الرملة وسير أثقاله إلى عسقلان فاقتتلوا فكان جمع الفتكين والقرمطي كثيرًا من رجال الشام والعرب وغيرهم فكانوا نحو خميسن ألف فارس وراجل فنزلوا على نهر الطواحين على ثلاثة فراسخ من البلد ومنه ماء أهل البلد فقطعوه عنهم فاحتج جوهر ومن معه إلى ماء المطر في الصهاريج وهو قليل لا يقوم بهم فرحل إلى عسقلان وتبعه الفتكين والقرمطي فحصراه بها وطال الحصار فقلت الميرة وعدمت الأقوات وكان الزمان شتاء فلم يمكن حمل الذخائر في البحر من مصر وغيرها فاضطروا إلى أكل الميتة وبلغ الخبز كل خمسة أرطال بالشامي بدينار مصري‏.‏

وكان جوهر يراسل الفتكين ويدعوه إلى الموافقة والطاعة ويبذل له البذول الكثيرة فيهم أن يفعل فيمنعه القرمطي ويخوفه منه فزادت الشدة على جوهر ومن معه فعاينوا الهلاك فأرسل إلى الفتكين يطلب منه أن يجتمع به فتقدم إليه واجتمعا راكبين‏.‏

فقال له جوهر‏:‏ قد عرفت ما يجمعنا من عصمة الإسلام وحرمة الدين وقد طالت هذه الفتنة وأريقت فيها الدماء ونهبت الأموال ونحو المؤاخذون بها عند الله تعالى وقد دعوتك إلى الصلح والطاعة والموافقة وبذلت لك الرغائب فأبيت إلا القبول ممن يشب نار الفتنة فراقب الله تعالى وراجع نفسك وغلب فقال الفتكين‏:‏ أنا والله واثق بك في صحة الرأي والمشورة منك لكنني غير متمكن مما تدعوني إليه بسبب القرمطي الذي أحوجتني أنت إلى مداراته والقبول منه‏.‏

فقال جوهر‏:‏ إذا كان الأمر على ما ذكرت فإنني أصدقك الحال تعويلًا على أمانتك وما أجده من الفتوة عندك وقد ضاق الأمر بنا وأريد أن تمن علي بنفسي وبمن معي من المسلمين وتذم لنا وأعود إلى صاحبي شاكرًا لك وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف‏.‏

فأجابه إلى ذلك وحلف له على الوفاء به وعاد واجتمع بالقرمطي وعرفه الحال فقال‏:‏ لقد أخطأت فإن جوهرًا له رأي وحزم ومكيدة وسيرجع إلى صاحبه فيحمله على قصدنا بما لا طاقة لنا به والصواب أن ترجع عن ذلك ليموتوا جوعًا ونأخذهم بالسيف فامتنع الفتكين من ذلك وقال‏:‏ لا أغدر به وأذن لجوهر ولمن معه بالمسير إلى مصر فسار إليه واجتمع بالعزيز وشرح له الحال وقال‏:‏ إن كنت تريدهم فاخرج إليهم بنفسك وإلا فهم واصلون على أثري فبرز العزيز وفرق الأموال وجمع الرجال وسار وجوهر على مقدمته‏.‏

وورد الخبر إلى الفتكين والقرمطي فعادا إلى الرملة وجمعا العرب وغيرها وحشدا ووصل العزيز فنزل بظاهر الرملة ونزلا بالقرب منه ثم اصطفوا للحرب في المحرم سنة سبع وستين وثلاثمائة فرأى العزيز من شجاعة الفتكين ما أعجبه فأرسل إليه في تلك الحال يدعوه إلى طاعته ويبذل له الرغائب والولايات وأن يجعله مقدم عسكره والمرجوع إليه في دولته ويطلب أن يحضر عنده ويسمع قوله فترجل وقبل الأرض بين الصفين وقال للرسول‏:‏ قل لأمير المؤمنين‏:‏ لو قدم هذا القول لسارعت وأطعت وأما الآن فلا يمكن إلا ما ترى‏.‏

وحمل على الميسرة فهزمها وقتل كثيرًا منها فلما رأى العزيز ذلك حمل من القلب وأمر الميمنة فحملت فانهزم القرمطي والفتكين ومن معهما ووضع المغاربة السيف فأكثروا القتل وقتلوا نحو عشرين ألفًا‏.‏

ونزل العزيز في خيامه وجاءه الناس بالأسرى فكل من أتاه بأسير خلع عليه وبذل لمن أتاه بالفتكين أسيرًا مائة ألف دينار وكان الفتكين قد مضى منهزمًا فكظه العطش فلقيه المفرج بن دغفل الطائي وكان بينهما أنس قديم فطلب منه الفتكين ماء فسقاه وأخذه معه إلى بيته فأنزله وأكرمه وسار إلى العزيز بالله فأعلمه بأسر الفتكين وطلب منه المال فأعطاه ما ضمنه وسير معه من تسلم الفتكين منه فلما وصل الفتكين إلى العزيز لم يشك أنه يقتله لوقته فرأى من إكرام العزيز له والإحسان إليه ما أعجزه وأمر له بالخيام فنصبت وأعاد إليه جميع من كان يخدمه فلم يفقد من حاله شيئًا وحمل إليه من التحف والأموال ما لم ير مثله وأخذه معه إلى مصر وجعله من أخص خدمه وحجابه‏.‏

وأما الحسن القرمطي فإنه وصل منهزمًا إلى طبرية فأدركه رسول العزيز يدعوه إلى العود إليه ليحسن إليه ويفعل معه أكثر مما فعل مع الفتكين فلم يرجع فأرسل إليه العزيز عشرين ألف دينار جعلها له كل سنة فكان يرسلها إليه وعاد إلى الأحساء‏.‏

ولما عاد العزيز إلى مصر أنزل الفتكين عند قصره وزاد أمره وتحكم فتكبر على وزيره يعقوب بن كلس وترك الركوب إليه فصار بينهما عداوة متأكدة فوضع عليه من سقاه سمًا فمات فحزن عليه العزيز واتهم الوزير فحبسه نيفًا وأربعين يومًا وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ثم وقفت أمور دولة العزيز باعتزال الوزير فخلع عليه وأعاده إلى وزارته‏.‏

  ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سار الحجاج إلى سميراء فرأوا هلال ذي الحجة بها والعادة جارية بأن يرى الهلال بأربعة أيام وبلغهم أنهم لا يرون الماء إلى غمرة وهو بها أيضًا قليل وبينهما نحو عشرة أيام فغدوا إلى المدينة فوقفوا بها وعادوا فكانوا أول المحرم في الكوفة‏.‏

وفيها ظهر بإفريقية كوكب عظيم من جهة المشرق وله ذؤابة وضوء عظيم فبقي يطلع كذلك نحوًا من شهر ثم غاب فلم ير وفيها توفي أبو القاسم عبد السلام بن أبي موسى المخرمي الصوفي نزيل مكة وكان قد صحب

  ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة

  ذكر وفاة المعز لدين الله العلوي وولاية ابنه العزيز بالله

في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيدالله العلوي الحسيني بمصر وأمه أم ولد وكان موته سابع عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة وولد بالمهدية من إفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبًا‏.‏

وكان سبب موته أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولًا كان يتردد إليه بإفريقية فخلا به بعض الأيام فقال له المعز‏:‏ أتذكر إذ أتيتني رسولًا وأنا بالمهدية فقلت لك‏:‏ لتدخلن علي وأنا بمصر مالكًا لها قال‏:‏ نعم‏!‏ وأنا أقول لك‏:‏ لتدخلن علي ببغداد وأنا خليفة‏.‏

فقال له الرسول‏:‏ إن أمنتني على نفسي ولم تغضب قلت لك ما عندي‏.‏

قال له المعز‏:‏ قل وأنت آمن قال‏:‏ بعثني إليك الملك ذلك العام فرأيت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه ووصلت إلى قصرك فرأيت عليه نورًا عظيمًا غطى بصري ثم دخلت عليك فرأيتك على سريرك فظننتك خالقًا فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئًا وأشرفت على مدينتك فكانت في عيني سوداء مظلمة ثم دخلت عليك فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام فقلت إن ذلك كان أمرًا مقبلًا وإنه الآن بضد ما كان عليه‏.‏

فأطرق المعز وخرج الرسول من عنده وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد واتصل مرضه حتى مات‏.‏

وكانت ولايته ثلاثًا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام منها‏:‏ مقامه بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي بإفريقية وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر وخرج إليها وكان مغرىً بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين‏.‏

قال له منجمه‏:‏ إن عليه قطعًا في وقت كذا وأشار عليه بعمل سرداب يختفي فيه إلى أن يجوز ذلك الوقت ففعل ما أمره وأحضر قواده فقال لهم‏:‏ إن بيني وبين الله عهدًا أنا ماضٍ إليه وقد استخلفت عليكم ابني نزارا يعني العزيز فاسمعوا له وأطيعوا‏.‏

ونزل السرداب فكان أحد المغاربة إذا رأى سحابًا نزل وأومأ بالسلام إليه ظنًا منه أن العز فيه‏.‏

فغاب سنة ثم ظهر وبقي مديدة ومرض وتوفي فستر ابنه العزيز موته إلى عيد النحر من السنة فصلى بالناس وخطبهم ودعا لنفسه وعزى بأبيه‏.‏

وكان المعز عالمًا فاضلًا جوادًا شجاعًا جاريًا على منهاج أبيه من حسن السيرة وإنصاف الرعية وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة ثم أظهره وأمر الدعاة بإظهاره إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به‏.‏

ولما استقر العزيز في الملك أطاعه العسكر فاجتمعوا عليه وكان هو يدبر الأمور منذ مات أبوه إلى أن أظهره ثم سير إلى الغرب دنانير عليها اسمه فرقت في الناس وأقر يوسف بلكين على ولاية إفريقية وأضاف إليه ما كان أبوه استعمل عليه غير يوسف وهي طرابلس وسرت وأجدابية فاستعمل عليها يوسف عماله وعظم أمره حينئذ وأمن ناحية العزيز واستبد بالملك وكان يظهر الطاعة مجاملة ومراقبة لا طائل وراءها‏.‏

  ذكر حرب يوسف بلكين مع زناتة وغيرها بإفريقية

في هذه السنة جمع خزرون بن فلفول بن خزر الزناتي جمعًا كبيرًا وسار إلى سجلماسة فلقيه صاحبها في رمضان فقتله خزرون وملك سجلماسة وأخذ منها من الأموال والعدد شيئًا كثيرًا وبعث برأس صاحبها إلى الأندلس وعظم شأنه زناتة واشتد ملكهم‏.‏

وكان بلكين عند سبتة وكان قد رحل إلى فاس وسجلماسة وأرض الهبط وملكه كله وطرد عنه عمال بني أمية وهربت زناتة منه فلجأ كثير منهم إلى سبتة وهي للأموي صاحب الأنلدس وكان في طريقه شعاري مشتبكة ولا تسلك فأمر بقطعها وإحراقها فقطعت وأحرقت حتى صارت للعسكر طريقًا‏.‏

ثم مضى بنفسه حتى أشرف على سبتة من جبل مطل عليها فوقف نصف نهار لينظر من أي جهة يحاصرها ويقاتلها فرأى أنها لا تؤخذ إلا بأسطول فخافه أهلها خوفًا عظيمًا ثم رجع عنها نحو البصرة وهي مدينة حسنة تسمى بصرة في المغرب فلما سمعت به زناتة رحلوا إلى أقاصي الغرب في الرمال والصحاري هاربين منه فدخل يوسف البصرة وكان قد عمرها صاحب الأندلس عمارة عظيمة فأمر بهدمها ونهبها ورحل إلى بلد برغواطة‏.‏

وكان ملكهم عبس بن أم الأنصار وكان مشعبذًا ساحرًا وادعى النبوة فأطاعوه في كل ما أمرهم به وجعل لهم شريعة فغزاه بلكين وكانت بينهم حروب عظيمة لا توصف كان الظفر في آخرها لبلكين وقتل الله عبس بن أم الأنصار وهزم عساكره وقتلوا قتلًا ذريعًا وسبى من نسائهم وأبنائهم ما لا يحصى وسيره إلى إفريقية فقال أهل إفريقية‏:‏ إنه لم يدخل إليهم من السبي مثله قط وأقام يوسف بلكين بتلك الناحية قاهرًا لأهلها وأهل سبتة منه خائفون وزناتة

  ذكر حصر كسنتة وغيرها

في هذه السنة سار أمي صقلية وهو أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين في عساكر المسلمين ومعه جماعة من الصالحين والعلماء فنازل مدينة مسيني في رمضان فهرب العدو عنها وعدا المسلمون إلى كسنتة فحصروها أيامًا فسأل أهلها الأمان فأجابهم إليه وأخذ منهم مالًا ورحل عنها إلى قلعة جلوا ففعل كذلك بها وبغيرها وأمر أخاه القاسم أن يذهب بالأسطول إلى ناحية بربولة ويبث السرايا في جميع قلورية ففعل ذلك فغنم غنائم كثيرة وقتل وسبى وعاد هو وأخوه إلى المدينة‏.‏

فلما كان سنة ست وستين وثلاثمائة أمر أبو القاسم بعمارة رمطة وكانت قد خربت قبل ذلك وعاود الغزو وجمع الجيوش وسار فنازل قلعة إغاثة فطلب أهلها الأمان فأمنهم وسلموا إليه القلعة بجميع ما فيها ورحل إلى مدينة طارنت فرأى أهلها قد هربوا منها وأغلقوا أبوابها فصعد الناس السور وفتحوا الأبواب ودخلها الناس فأمر الأمير بهدمها فهدمت وأحرقت وأرسل السرايا فبلغوا أذرنت وغيرها ونزل هو على مدينة عردلية فقاتلها فبذل أهلها له مالًا صالحهم عليه وعاد إلى المدينة‏.‏

في هذه السنة خطب للعزيز العلوي بمكة حرسها الله تعالى بعد أن أرسل جيشًا إليها فحصروها وضيقوا على أهلها ومنعوهم الميرة فغلت الأسعار بها ولقي أهلها شدة شديدة‏.‏

وفيها أقام بسلس بن أرمانوس ملك الروم وردًا المعروف بسقلاروس دمستقًا فلما استقر في الولاية استوحش من الملك فعصى عليه واستظهر بأبي تغلب بن حمدان وصاهره ولبس التاج وطلب الملك‏.‏

وفيها توفي أبو أحمد بن عدي الجرجاني في جمادى الآخرة وهو إمام مشهور ومحمد بن بدر الكبير الحمامي غلام ابن طولون وكان قد ولي فارس بعد أبيه‏.‏

وفيها في ذي القعدة توفي ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي صاحب التاريخ‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة

  ذكر وفاة ركن الدولة وملك عضد الدولة

في هذه السنة في المحرم توفي ركن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضد الدولة وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه معز الدولة وكان ابنه عضد وظهر عند الخاص والعام غضب والده عليه فخاف أن يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختل ملكه وتزول طاعته فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أن يتوصل مع أبيه وإحضاره عنده وأن يعهد إليه بالملك بعده‏.‏

فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه ركن الدولة وكان قد وجد نفسه خفة فسار من الري إلى أصبهان فوصلها في جمادى الأولى سنة خمس وستين وثلاثمائة وأحضر ولده عضد الدولة من فارس وجمع عنده أيضًا سائر أولاده بأصبهان فعمل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها ركن الدولة وأولاده والقواد والأجناد‏.‏

فلما فرغوا من الطعام عهد ركن الدولة إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل ولولده مؤيد الدولة أصبهان وأعمالها وجعلهما في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة‏.‏

وخلع عضد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زي الديلم وحياه القواد وإخوته بالريحان على عادتهم مع ملوكهم وأوصى ركن الدولة أولاده بالاتفاق وترك الاختلاف وخلع عليهم‏.‏

ثم سار عن أصبهان في رجب نحو الري فدام مرضه إلى أن توفي فأصيب به الدين والدنيا جميعًا لاستكمال جميع خلال الخير فيه وكان عمره قد زاد على سبعين سنة وكانت إمارته أربعًا وأربعين سنة‏.‏

  ذكر بعض سيرته

كان حليمًا كريمًا وصلى الله عليه وسلم اسع الكرم كثير البذل حسن السياسة لرعاياه وجنده رؤوفًا بهم عادلًا في الحكم بينهم وكان بعيد الهمة عظيم الجد والسعادة متحرجًا من الظلم مانعًا لأصحابه منه عفيفًا عن الدماء يرى حقنها واجبًا إلا فيما لا بد منه وكان يحامي على أهل البيوتات وكان يجري عليهم الأرزاق ويصونهم عن التبذل وكان يقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة وينتصب لرد المظالم ويتعهد العلويين بالأموال الكثيرة ويتصدق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات ويلين جانبه للخاص والعام‏.‏

قال له بعض أصحابه في ذلك وذكر له شدة مرداويج على أصحابه فقال‏:‏ أنظر كيف احترم ووثب عليه أخص أصحابه به وأقربهم منه لعنفه وشدته وكيف عمرت وأحبني الناس للين جانبي‏.‏

وحكي عنه أنه سار في سفر فنزل في خركاة قد ضربت له قبل أصحابه وقدم إليه طعام فقال لبعض أصحابه‏:‏ لأي شيء قيل في المثل‏:‏ خير الأشياء في القرية الإمارة فقال صاحبه‏:‏ لقعودك في الخركاة وهذا الطعام بين يديك وأنا لا خركاة ولا طعام فضحك وأعطاه الخركاة والطعام فانظر إلى هذا الخلق ما أحسنه وما أجمله‏.‏

وفي فعله في حادثة بختيار ما يدل على كمال مروءته وحسن عهده وصلته لرحمه رضي الله عنه وأرضاه وكان له حسن عهد ومودة وإقبال‏.‏

  ذكر مسير عضد الدولة إلى العراق

في هذه السنة تجهز عضد الدولة وسار يطلب العراق لما كان يبلغه عن بختيار وابن بقية من استمالة أصحاب الأطراف كحسنويه الكردي وفخر الدولة بن ركن الدولة وأبي تغلب بن حمدان وعمران بن شاهين وغيرهم والاتفاق على معاداته ولما كانا يقولانه من الشتم القبيح له ولما رأى من حسن العراق وعظم مملكته إلى غير ذلك‏.‏

وانحدر بختيار إلى واسط على عزم محاربة عضد الدولة وكان حسنويه وعده أنه يحضر بنفسه لنصرته وكذلك أبو تغلب بن حمدان فلم يف له واحد مهما‏.‏

ثم سار بختيار إلى الأهواز أشار بذلك ابن بقية وسار عضد الدولة من فارس نحوهم فالتقوا في ذي القعدة واقتتلوا فخامر على بختيار بعض عسكره وانتقلوا إلى عضد الدولة فانهزم بختيار وأخذ ماله ومال ابن بقية ونهبت الأثقال وغيرها ولما وصل بختيار إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالًا وسلاحًا وغير ذلك من الهدايا النفيسة ودخل بختيار إليه فأكرمه وحمل إليه مالًا جليلًا وأعلاقًا نفيسة وعجب الناس من قول عمران‏:‏ إن بختيار سيدخل منزلي وسيستجير بي فكان كما ذكر‏.‏

ثم أصعد بختيار إلى واسط‏.‏

وأما عضد الدولة فإنه سير إلى البصرة جيشًا فملكوها‏.‏

وسبب ذلك أن أهلها اختلفوا وكانت مضر تهوى عضد الدولة وتميل إليه لأسباب قررها معهم وخالفتهم ربيعة ومالت إلى بختيار فلما انهزم ضعفوا وقويت مضر وكاتبوا عضد الدولة وطلبوا منه إنفاذ جيش إليهم فسير جيشًا تسلم البلد وأقام عندهم‏.‏

وأقام بختيار بواسط وأحضر ما كان له ببغداد والبصرة من مال وغيره ففرقه في أصحابه ثم إنه قبض على ابن بقية لأنه اطرحه واستبد بالأمور دونه وجبى الأموال إلى نفسه ولم يوصل إلى بختيار منها شيئًا وأراد أيضًا التقرب إلى عضد الدولة بقبضه لأنه هو الذي كان يفسد الأحوال بينهم‏.‏

ولما قبض عليه أخذ أمواله ففرقها وراسل عضد الدولة في الصلح وترددت الرسل بذلك وكان أصحاب بختيار يختلفون عليه فبعضهم يشير به وبعضهم ينهى عنه ثم إنه أتاه عبد الرزاق وبدر ابنا حسنويه في نحو ألف فارس معونةً له فلما وصلا إليه أظهر المقام بواسط ومحاربة عضد الدولة‏.‏

فاتصل بعضد الدولة أنه نقض الشرط ثم بدا لبختيار في المسير فسار إلى بغداد فعاد عنه ابنا حسنويه إلى أبيهما وأقام بختيار ببغداد وانقضت السنة وهو بها وسار عضد الدولة إلى واسط ثم سار منها إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر وكانوا في الحروب والاختلاف نحو مائة وعشرين سنة‏.‏

ومن عجيب ما جرى لبختيار في هذه الحادثة أنه كان له غلام تركي يميل إليه فأخذ في جملة الأسرى وانقطع خبره عن بختيار فحزن لذلك وامتنع من لذاته والاهتمام بما رفع إليه من زوال ملكه وذهاب نفسه حتى قال على رؤوس الأشهاد‏:‏ إن فجيعتي بهذا الغلام أعظم من فيجعتي بذهاب ملكي ثم سمع أنه في جملة الأسرى فأرسل إلى عضد الدولة يبذل له ما أحب في رده إليه فأعاده عليه وسارت هذه الحادثة عنه فازداد فضيحة وهوانًا عند الملوك وغيرهم‏.‏

  ذكر وفاة منصور بن نوح وملك ابنه نوح

في هذه السنة مات الأمير منصور بن نوح صاحب خراسان وما وراء النهر منتصف شوال وكان موته ببخارى وكانت ولايته خمس عشرة سنة وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم نوح وكان عمره حين ولي الأمر ثلاث عشرة سنة ولقب بالمنصور‏.‏

  ذكر وفاة القاضي منذر البلوطي

في هذه السنة في ذي القعدة مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي أبو الحاكم قاضي قضاة الأندلس وكان إمامًا فقيهًا خطيبًا شاعرًا فصيحًا ذا دين متين دخل يومًا على عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس بعد أن فرغ من بناء الزهراء وقصورها وقد قعد في قبة مزخرفة بالذهب والبناء البديع الذي لم يسبق إليه ومعه جماعة من الأعيان فقال عبد الرحمن الناصر‏:‏ هل بلغكم أن أحدًا بنى مثل هذا البناء فقال له الجماعة‏:‏ لم نر ولم نسمع بمثله وأثنوا وبالغوا والقاضي مطرق فاستنطقه عبد الرحمن فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته وقال‏:‏ والله ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله تعالى يبلغ منك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين مع ما آتاك الله وفضلك به حتى أنزلك منازل الكافرين‏.‏

فقال له عبد الرحمن‏:‏ انظر ما تقول وكيف أنزلني منزل الكافرين فقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ أنْ يَكُونَ النّاس أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَن لِبُيُوتِهمْ سُقُفًا مِنْ فِضّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُون وَلِبُيُوتِهمْ أبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏:‏ 35‏]‏‏.‏

فوجم عبد الرحمن وبكى وقال‏:‏ جزاك الله خيرًا وأكثر في المسلمين مثلك وأخبار هذا القاضي كثيرة حسنة جدًا ومنها‏:‏ أنه قحط الناس وأرادوا الخروج للاستسقاء فأرسل إليه عبد الرحمن يأمره بالخروج فقال القاضي للرسول‏:‏ يا ليت شعري ما الذي يصنعه الأمير يومنا هذا فقال‏:‏ ما رأيته قط أخشع منه الآن قد لبس خشن الثياب وافترش التراب وجعله على رأسه ولحيته وبكى واعترف بذنوبه ويقول‏:‏ هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب هذا الخلق لأجلي فقال القاضي‏:‏ يا غلام احمل الممطر معك فقد أذن الله بسقيانا إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء فخرج واستسقى بالناس فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم قال‏:‏ ‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أنَّهُ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأصْلَحَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏‏.‏ الآية وكررها فضج الناس بالبكاء والتوبة وتمم خطبته فسقي الناس‏.‏

في هذه السنة قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل عينه الواحدة وقطع أنفه‏.‏

وكان سبب ذلك أن أبا الفتح لما كان ببغداد مع عضد الدولة على ما شرحناه وسار عضد الدولة نحو فارس تقدم إلى أبي الفتح بتعجيل المسير عن بغداد إلى الري فخالفه وأقام وأعجبه المقام ببغداد وشرب مع بختيار ومال في هواه واقتنى ببغداد أملاكًا ودورًا على عزم العود إليها إذا مات ركن الدولة ثم صار يكاتب بختيار بأشياء يكرهها عضد الدولة‏.‏

وكان له نائب يعرضها على بختيار فكان ذلك النائب يكاتب بها عضد الدولة ساعة فساعة فلما ملك عضد الدولة بعد موت أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة بالري يأمره بالقبض عليه وعلى أهله وأصحابه ففعل ذلك وانقلع بيت العميد على يده كما ظنه أبوه أبو الفضل‏.‏

وكان أبو الفتح ليلة قبض قد أمسى مسرورًا فأحضر الندماء والمغنين وأظهر من الآلات الذهبية والزجاج المليح وأنواع الطيب ما ليس لأحد مثله وشربوا وعمل شعرًا وغني له فيه وهو‏:‏ دعوت المنى ودعوت العلى فلمّا أجابا دعوت القدح وقلت لأيّام شرخ الشباب إليّ فهذا أوان الفرح فلما غني في الشعر استطابه وشرب عليه إلى أن سكر وقام وقال لغلمانه‏:‏ اتركوا المجلس على ما هو عليه لنصطبح غدًا وقال لندمائه‏:‏ بكروا إلي غدًا لنصطبح ولا تتأخروا‏.‏

فانصرف الندماء ودخل هو إلى بيت منامه فلما كان السحر دعاه مؤيد الدولة فقبض عليه وأرسل إلى داره فأخذ جميع ما فيها ومن جملته ذلك المجلس بما فيه‏.‏